خان الخليلي واحد من أعرق أسواق الشرق، يزيد عمره قليلاً على 600 عام، وما زال معماره الأصيل باقياً على حاله منذ عصر المماليك وحتى الآن. هاجر اليه عدد كبير من تجار مدينة الخليل الفلسطينية وسكنوه والان توجد بة جالية من اهل الخليل تسكن به وتعمل بالتجارة واليهم ينسب خان الخليلي بالقاهرة وقد سمي بهذا الاسم نسبة لمؤسسه وهو أحد الأمراء المماليك وكان يدعى جركس الخليلي وهو من مدينة الخليل.
لو عدنا بالزمان إلى الوراء كثيراً فسوف يطالعنا المؤرخ العربي الأشهر (المقريزي) الذي يقول إن الخان مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، تشمل الطبقة السفلي منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى منشئه الشريف (الخليلي) الذي كان كبير التجار في عصر السلطان برقوق عام 1400 م.
وإذا كان المثل الشعبي يقول: إن "الرجل تدب مكان ماتحب"، فإن أول دبة على أرض الخان لابد أن تكون في مقهى الفيشاوي، الذي يزيد عمره عن مائتي عام، وهو من أقدم مقاهي القاهرة، وكان الكاتب الكبير نجيب محفوظ من أشهر رواده في فترة الستينات من القرن العشرين
وإذا بدأت الرحلة في الخان فلابد وأن تلقي نظرة على ماتبقى من (مشربيات) مطلة على الشارع أو الحارة، وأسبلة جميلة مشغولة واجهاتها بالنحاس وفيها أحواض الماء التي كانت تروي العطشان وعابر السبيل في الزمن الذي كان. ويحتاج زائر الحي إلى عبقرية أو حساسية خاصة في المرور داخل الأزقة الضيقة وسط زحام أسطوري من البشر والمقاعد الخشبية التي رصها أصحاب المقاهي لجذب الرواد، وبمجرد أن تدخل الشارع يتناهى إلى الأسماع عبارات الترحيب المصرية خفيفة الظل، وكلمات أولاد البلد المرحبة تدعو الزائرات والزائرين للفرجة، "واللي مايشتري يتفرج". ولو دخلت أحد الحوانيت فإن البائع يستقبلك بعبارة "مصر نورت" ويرد الزائر الذي له خبرة بعالم القاهرة السحري ومفرداتها اللغوية "مصر منوره بأهلها"، ويبدأ في عرض ما لديه من بضائع، لاتفارقه ابتسامته، وكلماته المتدفقة حول جودة بضاعته، وأنها صنعت خصيصاً لعشاق الفن اليدوي. وتجار الخان خبراء في فن البيع، ورثوا التجارة والشطارة عن الأجداد، وهم يعرضون الأصيل والمزيف من البضائع، ولهم ولع عجيب بالمساومة، كما يتسمون بصبر وجلد على إقناع الزبون.
حي خان الخليلي هو واحد من ثمانية وثلاثين سوقاً كانت موزعة أيام المماليك على محاور القاهرة، ويقع هذا الخان وسط المدينة القديمة فوق مقابر الخلفاء الفاطميين سابقاً.
وكان المعز لدين الله قد استحضر معه من (القيروان) توابيت ثلاثة من أسلافه ودفنهم في مقبرته، حيث دفن هو وخلفاؤه أيضاً، وقد أمر الخليلي بنقل المقابر إلى أماكن أخرى وتأسيس سوق للتجار.
والأسلوب الذي كانت تعرض به البضائع في القاهرة القديمة حيث كانت تتلاصق الأسواق وتمتلئ الحارات بالحوانيت التي تعرض نفس البضاعة بأسعار متفاوتة، أمر أشبه مايكون بمعرض دائم ومستمر للبضائع المختلفة، ممايتيح فرصة ممتازة للمشتري في أن ينتقى مايريد ويختار الأجود، ويفاصل ويساوم ليحصل على الأمتن والأرخص.
هنا بضائع من كل صنف ولون، من الذهب والماس والفضة إلى أوراق البردي التي تحمل كلمات هيروغلوفية وتمائم وأيقونات وقصائد غزلية، ونقوشات باللون الأزرق تحكي في اختزال مدهش أجمل حكاية عشق في التاريخ (حكاية إيزيس وأوزوريس) التي يقبل عليها السياح الأجانب.
وتسبح في الفضاء روائح جميلة تصل إلى السائح الذي يعبر الزقاق في اتجاه شارع الموسكي حيث تكثر تجارة العطور العربية والآسيوية والأوروبية، هنا عطر الملك، والعنبر، والياسمين والفل، مئات وربما الآن زجاجات ذات أشكال وألوان غريبة تحتوى عطوراً غير مألوفة تتراوح ألوانها ما بين الزيتي في لون البترول الخام، والأصفر الذهبي، والبنفسجي الممزوج بالعنبر. ونسأل تاجر يتحدى الزمن بابتسامة عن (الأسانس) الذي يتم تصنيع هذه العطور منه فقال إن ما أراه من عطور هنا يكاد يكون هو التركيبة الفعلية للعطر بدون إضافة كحول تذكر إليه، وناولني زجاجة تحتوي عطراً زيتي الملمس، فاقع الأريج وقال إن هذا العطر يتم استخلاصه من نوع معين من ذكور الغزال يسمى وعل المسك، أما هذا الذي يخلط لونه البنفسجي بعتامة تتألق تحت الضوء فهو خلاصة البنفسج، أما زيت العنبر فيفرزه نوع واحد من الحيتان يسمى حيتان العنبر، والحوت لايفرز هذا العنبر إلا وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة أو يعانى سكرات الموت.
أما البخور فله مملكة خاصة في الخان، ويعتقد الناس أن دخان المستكة يمنع العين والحسد، أما الكسبرة فهي زعيمة مملكة البخور ويطلق عليها الناس اسم (الفك والفكوك) أي أن من يشمها تذهب عنه العقد بلا رجعة. أما زائر خان الخليلي فلابد أن تكون له رجعة.
تابعونا في المقالات القادمه